
بقلم الأستاذ سعيداني فوزي
اتفق علماء الاجتماع في العصر الحديث، خاصة، على أن الأسرة هي النخاع الشوكي للمجتمع، وأنها البداية الأولى له. والخروج عن هذا الموضوع ثم الدخول في سؤال آخر ينمُّ ضمنيًا عن أن الطبيعة تأبى الفراغ، ولا يمكن أن نستحضر مكونًا من مكونات الحياة دون أن يستند إلى سلطة معنوية أو براغماتية أو منهجية أو قانونية. لنعد إلى الأسرة ونتساءل: من يحكم الأسرة؟ ومن يديرها لكونها مكونًا منظمًا ومرتبًا وواضح المراتب؟
لقد درس علم اجتماع الأسرة -وهو علم معاصر نظريًا- مراحل تطور الأسرة منذ النواة الأولى (الزوج والزوجة). درس هذا العلم تطور الأسرة من خلال المؤثرات والعوامل والتفسيرات، وخلص إلى أن الزوج، الذي يصبح بعد تطور الأسرة أبًا، هو الذي يسير ويدير تطورات أسرته، ويستجيب للعواقب، ويتحمل المسؤوليات، ويدير تطور الأسرة بشكل نفسي وتطبيقي. فهو من يقرر ويأمر، وهو صاحب القرار لضمان استقرار الأسرة نفسيًا وماديًا. ومن هنا أصبح الأب مسؤولًا عن نجاح الأسرة أو فشلها، إذ إن العوامل الدينية والروتينية والعادات والتقاليد والتراث والقيم والسلوك الديني والفكر الحضاري جعلت منه الرجل الأول في الأسرة، الذي لا تُرَد كلمته. فإذا استطاع الأب النجاح في قيادة الأسرة، فهو يصبح مقدسًا، وإن لم يستطع، فسيبقى دومًا صاحب القرار، ورغم فشله، وأحيانًا حتى رغم فساده، لا سلطة تعلو على سلطته بسبب خلفية متوارثة ودينية صريحة لا اعتراض عليها.
إقرأ أيضا
لكن السؤال الآن: ما دور بقية أفراد الأسرة في ظل هذه السلطة الوهمية التي تمارس عليهم داخل الأسرة وخارجها؟ والتي قد تضع غالبيتهم تحت ضغوط نفسية، وتحرمهم من حرية اتخاذ القرارات المتعلقة بحياتهم ودراستهم وثقافتهم وأسلوب حياتهم. فلماذا ظل الأب دومًا صاحب القرار في الأسرة في كل الظروف؟
في هذا الجانب، ذهب عالم الاجتماع الشهير سورينس إلى قناعة بأن الأسرة التي يكون فيها الأب هو صاحب جميع القرارات يكون مصيرها التشتت والتفرق، مدافعًا عن فكرة حرية الأفراد القيمية التي يقدسها الدين والفكر والمجتمع. كما أن قيام الأب بدور السلطان غالبًا ما يعرض أفراد الأسرة إلى ضغوط نفسية، وإلى قبول قرارات لا تناسبهم في دراستهم ومستقبلهم، بل قد يصل الأمر إلى الانتحار أو التصفية. وهذا ما دافعت عنه الباحثة في علم الاجتماع الأسري أنا جونسون جوليان، حيث أكدت أن الأسرة الناجحة هي تلك التي لا تُمارَس فيها أي سيادة أو سلطة مطلقة، لأن سلوكيات الأوامر والتعصب دمرت ملايين الأسر في العالم. وترى جوليان أن الأسرة الناجحة هي التي يمارس كل فرد فيها سلطته على نفسه داخل مكون الأسرة، مع احترام الخلفيات الأخلاقية والدينية والنفسية التي يتفق عليها المجتمع.
وهذا ما تدعمه المجتمعات الإسلامية المتطورة، خاصة في الجزيرة العربية، والمجتمعات المسيحية، خاصة في جنوب أوروبا. بل أصبحت العائلات التي تستطيع فيها الأم التأثير على الجميع أسرًا تعيش قمة السعادة. وقد أقر العالم السوسيولوجي باربارا روثمان بأن الأم هي الشخص الوحيد الأنسب لسلطة الأسرة، لو كانت السلطة حلًا ناجحًا في تسيير الأسرة. وذهبت روثمان إلى فكرة أن امتثال أفراد الأسرة لقرار فرد واحد هو سلوك فاشل يخلق التنافر، ويقتل القيم الأسرية. ومن هنا نرى أن تخلي الأبناء عن أسرهم في وقت مبكر، وبحثهم عن أماكن أخرى للعيش، سببه سلطة الأب، حتى لو كانت سلطة رشيدة، لأن الحوار الأسري السليم لا يمكن أن يتحقق إذا كان أحد أطرافه يرى نفسه صاحب السلطة، بينما الأطراف الأخرى مجرد مأمورين، ففي هذه الحالات لا يمكن تحقيق أي نتيجة إيجابية.
في دراسة علمية نفسية، قام بها المختص في علم الاجتماع بريت كلارك، وهو أستاذ وباحث جامعي، وجد أن معظم الشباب الذين التحقوا بالجيوش الأمريكية والفرنسية في قواعدهم عبر بلدان إفريقية وآسيوية وعربية، فعلوا ذلك هروبًا من السلطة التعسفية والضغوطات التي يعيشونها في بيوتهم. ومن بين أسباب اختفاء الأطفال وهروبهم من البيوت، وحسب النظرية الأسرية المعاصرة، تراكمات نفسية ناجمة عن محاولة فرض السلطة بالقوة.
ومن جانب آخر، لو تأملنا أخلاقيًا وسلوكيًا في علم التربية وعلم الأسرة وعلم نظام السلوك، لوجدنا أن تربية الأبناء لا تتم من خلال ممارسات تعسفية أو تحقيق السلطة من طرف الوالدين، بل تتم بالتعليم والتطبيق والمقاربة والتجسيد، دون الحاجة إلى أشكال العنف اللفظي والجسدي، اللذين يحاربهما القانون بشدة. ولهذا نعود لنؤكد أن السلطة داخل الأسرة مشروع فاشل، لأن نظام تسيير الأسرة يتم -حسب الباحثين- على أساس ثقافة الاحترام والتعاون والتآخي والمحبة واللين. وهذا ما أقر به الدين الإسلامي، من خلال الدعوة إلى خيرية ولي الأمر وليس إلى سلطته، ومن خلال تحميله مسؤولية توفير جو من المحبة والود داخل الأسرة.
وفي هذا السياق، ذهبت عالمة الاجتماع جاكي سميث، التي تدعم النظرية الاجتماعية المعاصرة، إلى أن الأسرة هي مكون بشري منظم، ومكون أخلاقي رفيع، واحتواء نفسي متكامل. وأن الأسرة ليست مجرد عش يغادره أفراده، بل هي الوطن الذي يتمسك أفراده بعضهم ببعض من خلال سلوك الحب والتآزر وتقديس الروابط الأسرية. وعلى ولي الأمر في الأسرة -أبًا كان أو أمًّا- أن يكون مسالمًا ومتسامحًا، بحيث تدور المؤثرات بشكل إيجابي داخل الأسرة، مع تجنب خلق الصراعات، ودعم الاختلافات، وعدم تفضيل فرد على الآخر، لأن ذلك -حسب جاكي سميث– هو جحيم الأسرة.
وفي النهاية، نصل إلى قناعة علمية مفادها أن الأسرة مكسب اجتماعي ثمين، ومركز دوران المجتمع، وهي مقياس الأزمات الداخلية. وأن الأسرة تتطور وتستقر من خلال سلوكيات الحوار والاحتواء والدعم المستمر بين أفرادها، والتآزر. كما أن مفهوم “ملك الغابة” لا يمكن أن يتحقق داخل أسرة، لأن أفرادها بشر يتمتعون بعقل وسلوك منضبط.
حتى الأسر المهنية -رغم رتبها وتدرجات المهام فيها- أصبحت تميل إلى الزمالة والمودة، بدل السلوك الوظيفي الصارم. ولو تأملنا في الموروث الأخلاقي النبيل في السيرة النبوية، لوجدنا أن الرسول ﷺ -وهو مرجع أخلاقي وسلوكي رفيع- لم يكن يمارس السلطة في أسرته، بل كان يمارس ما يسمى بالخيرية، أي الوصال النبيل، وقد تجسد ذلك في مواقف كثيرة نقلها الصحابة رضوان الله عليهم.
لذلك، يمكن ممارسة السلطة في الحكومات والإدارات والثكنات وحتى في المجتمعات الحيوانية، لكن داخل الأسرة، وحسب علماء الاجتماع الدارسين لنظرية بناء الأسرة ونظرية العائلة المعاصرة ونظرية سيكولوجية الأفراد، لا يمكن تحقيق ذلك. فقد أكدت جميع الدراسات أن الذهنيات السامية، والتصرفات الإنسانية، والقيم النبيلة، والحوار، والمحبة، واللين، والتسامح، هي السبيل للحفاظ على استقرار الأسرة في كل مكان في العالم. وكلما حاول الأب فرض سلطته، زادت في الأسرة الأمراض النفسية، وتراكمت المشكلات، وحدث الخضوع القسري، وانكسرت الطموحات، وانتشرت الخلافات، وتعرض الأفراد للظلم.
وقد حافظ الدين الإسلامي على قيمة الوالدين، ليضمن لهم رد الجميل في كبرهم، وليعيشوا حياة كريمة يسودها الحب والأنس والرعاية، جزاءً لما قدموه لأسرهم من حب وحوار وكرم.
المصدر : صحيفة الشرق الأوسط
